سورة المائدة - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}
قرئ {لا يحزنك} بضم الياء. ويسرعون. والمعنى: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين {فِى الكفر} أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرّهم. يقال: أسرع فيه الشيب. وأسرع فيه الفساد، بمعنى: وقع فيه سريعاً، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه، أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها. و{ءَامَنَّا} مفعول قالوا. و{بأفواههم} متعلق بقالوا لا بآمَنَّا {وَمِنَ الذين هِادُواْ} منقطع مما قبله خبر لسماعون، أي: ومن اليهود قوم سماعون. ويجوز أن يعطف على {من الذين قالوا} ويرتفع سماعون على: هم سماعون. والضمير للفريقين. أو للذين هادوا. ومعنى {سماعون لِلْكَذِبِ} قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان. ومنه (سمع الله لمن حمده) {سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدّة البغضاء وتبالغ من العداوة، أي قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. وقيل: سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منه. وقيل: السَّمَّاعون: بنو قريظة. والقوم الآخرون: يهود خيبر {يُحَرّفُونَ الكلم} يميلونه ويزيلونه {عَن مواضعه} التي وضعه الله تعالى فيها، فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} المحرف المزال عن مواضعه {فَخُذُوهُ} واعلموا أنه الحق واعملوا به {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} وأفتاكم محمد بخلافه {فاحذروا} وإياكم وإياه فهو الباطل والضلال.
وروي: أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحّدهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقالوا: إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن يأمركم بالرجم فلا تقبلوا، وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، فقال: «هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا»؟ قالوا: نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكماً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟»
قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} تركه مفتوناً وخذلانه {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً {أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله} أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم؛ لأنهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله} [النحل: 104]، {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} [آل عمران: 86].


{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
{السحت} كل ما لا يحل كسبه، وهو من- سحته- إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276] والربا باب منه. وقرئ: {السحت} بالتخفيف والتثقيل. والسحت بفتح السين على لفظ المصدر من سحته. {والسحت}، بفتحتين. {والسحت}، بكسر السين. وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام.
وعن الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراها إياه وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وحكى أن عاملاً قدم من عمله فجاءه قومه، فقدم إليهم العراضة وجعل يحدثهم بما جرى له في عمله، فقال أعرابي من القوم: نحن كما قال الله تعالى: {سماعون لِلْكَذِبِ أكالون لِلسُّحْتِ} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل لحم أَنبته السحت فالنار أولى به» قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً- إذا تحاكم إليه أهل الكتاب- بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم.
وعن عطاء والنخعي والشعبي: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاءوا حكموا وإن شاءوا أعرضوا. وقيل: هو منسوخ بقوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} وعند أبي حنيفة رحمه الله: إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وإن زنى منهم رجل بمسلمة أو سرق من مسلم شيئاً أقيم عليه الحدّ. وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود. ويقولون: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية {فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم، كالجلد مكان الرجم. فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم، شقّ عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه، فأمن الله سربه {بالقسط} بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإِيمان به {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك} ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} بكتابهم كما يدّعون. أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبل التهكم بهم.
فإن قلت: {فِيهَا حُكْمُ الله} ما موضعه من الإعراب؟ قلت: إمّا أن ينتصب حالاً من التوراة وهي مبتدأ خبره عندهم وإمّا أن يرتفع خبراً عنها كقولك: وعندهم في التوراة ناطقة بحكم الله وإمّا أن لا يكون له محل وتكون جملة مبنية، لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت: لم أنثت التوراة؟ قلت: لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب.
فإن قلت: علام عطف ثم يتولون؟ قلت: على يحكمونك.


{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
{فِيهَا هُدًى} يهدي للحق والعدل {وَنُورٌ} يبين ما استبهم من الأحكام {الذين أَسْلَمُواْ} صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأنّ اليهودية بمعزل منها. وقوله: {الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} مناد على ذلك {والربانيون والأحبار} والزهاد والعلماء من ولد هارون، الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود {بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله} بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة، أي بسبب سؤال أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل، و(من) في (من كتاب الله) للتبيين {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبييون- بين موسى وعيسى وكان بينهماألف بني وعيسى- للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد. وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله والقضاء بأحكامه، وبسبب كونهم عليه شهداء. ويجوز أن يكون الضمير في (استحفظوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله، أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء {وَلاَ تَشْتَرُواْ} ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا {بآياتي} وأحكامه {ثَمَناً قَلِيلاً} وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرّف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} مستهيناً به {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} والظالمون والفاسقون: وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة. وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين: أهل الكتاب. وعنه: نعم القوم أنتم، ما كان من حلو فلكم، ومن كان من مرة فهو لأهل الكتاب، من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقرّ فهو ظالم فاسق.
وعن الشعبي: هذه في أهل الإسلام والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى.
وعن ابن مسعود: هو عام في اليهود وغيرهم.
وعن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتاً ببني إسرائيل: لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11